close
ملحمة الكامور .. القصة الكاملة

ملحمة الكامور .. القصة الكاملة

ملحمة الكامور .. سوء التقدير أفضى إلى سوء التدبير


كادت جولة المفاوضات الأخيرة مع الوزير السيد عماد الحمامي أن تفضي إلى حل مرض لشباب الكامور وفك الاعتصام لولا 
غياب آلية واضحة لتنفيذ بنود الاتفاق من جهة، وفقر تجربة العمل الجماعي لدى الشباب من جهة أخرى، حيث وافقوا بأغلبية ساحقة على النقاط الواردة في الاتفاق سرعان ما نقضتها أقلية لم تتعود أن تحتكم إلى نتائج التصويت والقبول بما انتهت إليه الأغلبية. فسارعوا إلى التصعيد ونقل خيامهم إلى نقطة تخزين البترول لغلق «الفانة». وعند هذه النقطة حصل تحول في ميزان القوى داخل مخيم الكامور حيث التحق عدد هائل ممن يحسبون على كتلة الأغلبية إلى كتلة الأقلية ووجدنا أنفسنا أمام كامور رقم:2 بهيكلة جديدة ووجوه جديدة وأصبحت أغلبية الأمس أقلية اليوم. الأمر الذي لم تنتبه إليه سلطة الإشراف على المستوى الجهوي وعلى المستوى المركزي أيضا ولسان حالها يقول لقد وصلنا إلى حل مع الأغلبية؛ أسدل الستار وأغلق الملف. ولم يبق أمامنا إلا أقلية لا أفق لها ولا إمكانية للوصول إلى حل معها والطريق الأمثل للتعامل معها هو استخدام القوة وفض الاعتصام . بل عمدت السلطة إلى تجويعهم عن طريق الضغط على رجال أعمال تطاوين ومنعهم من مساندتهم ماديا ظنا منها بأن «سل فيشة» التموين سيدفعهم إلى الرضوخ أيضا والعودة إلى تطاوين صاغرين نتيجة الجوع والعطش.
ما هي ملامح سوء التقدير؟

1 ـ أخطأت السلطة التقدير عندما وقفت قراءتها عند لحظة التفاوض الأخيرة مع السيد عماد الحمامي ولم تنتبه إلى التغير الذي حصل في ميزان القوى داخل حراك الشباب بعد تلك اللحظة لتتحول أقلية الأمس إلى أغلبية اليوم. بينما ظلت هي تتواصل مع أغلبية الأمس - أقلية اليوم.
2 ـ وأخطأت السلطة التقدير عندما لم تقرأ شخصية الشاب التطاويني قراءة نفسية صحيحة وراهنت على أن أهل تطاوين هم أناس مسالمون - وهم كذلك فعلا - وغفلت عن قول شاعرهم: «ما ناش من الّي ذلّوا ... وما ناش من الّي من نصف الطريق اولوا» وغفلت عن مثلهم السائر : «انسفّ التراب وما ننذل» أي أتحمل الجوع والعطش ولا أطأطئ رأسي لأحد. هم قوم لايجرون وراء البلاء فإذا حل بدارهم ثنوا له ركبهم. وقد خبروا المصاعب وتمرسوا على الشدائد في حياتهم اليومية يرعون الغنم والابل في الصحارى والفيافي بدون زاد يذكر سوى السويق وحليب النوق. وبالجملة فهم أناس يسهل انقيادهم لمن يحترمهم ويقدرهم ولكنهم يقاومون حتى الموت من أجل كرامتهم وشرفهم. وفي شباب الكامور اليوم من لديه استعداد للمضي قدما في اعتصامه حتى آخر قطرة من دمه.
3 ـ أخطأت السلطة التقدير أيضا عندما ظنت أنها من خلال فض اعتصام الكامور بالقوة والتعامل مع الشباب بالتي هي أخشن سترسل رسائل موقعة بالدم على حساب تطاوين إلى الجهات الأخرى المنتفضة في نواحي البلاد المختلفة وخاصة في الجنوب الغربي دوز وقبلي والقلعة وهم أكثر استبسالا من أهل تطاوين ويشتركون معهم في كثير من سمات الشخصية وهو أمر لابد من أخذه بعين الاعتبار عند التعامل معهم.

4 ـ أخطأت السلطة التقدير أيضا عندما ظنت أنها عندما ستتعامل مع الأقلية بالتي هي أخشن سوف لن ينتصر لهم أهلهم لكونهم شذوا عن رأي الأغلبية؛ وقد بينت الأحداث غير ذلك وأن الدم خط أحمر لايمكن السكوت عنه بأي حال من الأحوال.

5 ـ ومن ملامح سوء التقدير أيضا أن السلطة لم تأخذ بعين الاعتبار الرسالة التي مررها أهل تطاوين ليلة حلول الأرتال الأمنية بالكامور عندما استغاث بهم أبناؤهم فهرعوا في اتجاه الولاية ليلا بأعداد كبيرة: رجالا ونساء ، كبارا وصغارا، شيبا وشبابا معبرين عن غضبهم واستيائهم من لجوء السلطة إلى القوة لفك الاعتصام.
ما هي نتائج سوء التدبير؟
حزمت السلطة أمرها بناء على تلك القراءة الخاطئة وأرسلت أرتالا من الأمنيين لفض الاعتصام بالقوة فكانت الواقعة. سال الدم وتتالت الأحداث وحصل الحرق والتخريب والنهب. وانهالت علينا التصريحات عبر وسائل الإعلام تصف الحدث وتحلله بوجه حق وبغيره . ونظرا الى حضوري بعض الأحداث والى سماعي مباشرة من شهود عيان على عين المكان أردت أن أصحح الصورة التي تناقلتها وسائل الإعلام.
لكن قبل ذلك أريد أن أسجل بعض الملاحظات حتى لا يحمل كلامي على غير محمله.

1 ـ في الديمقراطيات العريقة لايمكن اعتبار ما قام به الشباب من قطع الطريق على الشركات البترولية وإيقاف الانتاج أمرا سلميا بحال من الأحوال وهو أمر أبلغته للشباب أكثر من مرة. لكنه أمر تكرر حدوثه في سياقات ثورية في أكثر من جهة من جهات البلاد وتعاملت معه السلطة بطرق سلمية. فما الذي أغراها بأن تجعل له حدا هذه المرة باستخدام العنف؛ أما كان أجدر بها أن تستكمل مشوار الحوار ولاتستعجل أمرها.
2 ـ حرق المحلات العمومية والتعدي على الحقوق الخاصة والعامة أمر لا يقره شرع ولايمكن قبوله بأي حال من الأحوال. ولايمكن تصنيفه ضمن الطرق السلمية المدنية في المطالبة بالحقوق المشروعة .
3 ـ مطالب شباب الكامور – في أول الأمر – لم تكن واضحة وقابلة للتحقيق وخرجت بالحراك عن طبيعته الاجتماعية إلى سياق ثوري يطالب بتغييرات كبيرة هي أكبر من إمكانياتهم المحلية وتتطلب جهدا وطنيا من قبيل المطالبة بإعادة صياغة عقود الشركات البترولية فهذا أمر يتطلب جهدا جماعيا على المستوى الوطني مع توفر إرادة حقيقية على مستوى الحكومة والبرلمان ولايعقل أن تكون الاستجابة له شرطا لفض الاعتصام.
4 ـ المطالب الأساسية التي اعتصم الشباب من أجلها مطالب مشروعة لا غبار عليها من قبيل: الحق في الشغل والحق في التنمية؛ والمطالبة بها بالطرق السلمية حق يكفله الدستور، وتقره الأعراف الدولية، وتتسع له التقاليد الديمقراطية.
5 ـ نظرا الى مشروعية مطالب شباب الكامور تعاطف معهم أهل الخير في تطاوين ورجال الأعمال فيها فدعموهم بما يملكون من خيام وتموين ووسائل نقل: سيارات رباعية النقل ، والشاحنات... إلخ وكل ما قيل عن دعم من خارج تطاوين عار عن الصحة ولامستند له.
نعود إلى وصف مختصر للأحداث:
بدأت أحداث الكامور بتفاوض الشباب مع الجيش من أجل غلق «الفانة» لكنهم سرعان ما فوجئوا بهجوم من طرف رجال الأمن المرابطين بالكامور اتسم بالعنف و»الحقرة» وشهد المخيم كرا وفرا من الطرفين انتهى باستشهاد الشاب محمد أنور السكرافي - رحمه الله - دهسا بسيارة الأمن . كما قام رجال الأمن بحرق بعض الخيام. وبتنامي الخبر إلى أسماع أهل تطاوين هرع الشباب إلى مقر الولاية للاحتجاج وهناك ووجهوا بالغاز المسيل للدموع وانتقلت الحركة بعد ذلك إلى مقر الأمن الذي تم حرقه بالكامل ووقعت إصابة أخرى في صفوف المحتجين نتيجة الغاز المسيل للدموع والخرطوش البلاستيكي . وحصل بعد ذلك سرقة ونهب في مستودع البلدية بتطاوين كما حصل نهب بالذهيبة ومحاولتا نهب في كل من الصمار ومركز المرور بسيدي مصباح على طريق تونس تطاوين كللتا بالفشل. والعامل المشترك بين محاولات النهب هذه هو قدوم شباب من خارج تطاوين تم القبض على بعضهم وتبين أنه من بنقردان – كنت شاهدا على تسليمه وتسليم سيارته إلى الجيش الوطني – وأغلب الظن أنهم من مافيات التهريب أرادوا أن يستغلوا الظرف وربما خططوا له بدقة لتحرير محجوزاتهم بمقرات الديوانة وربما هم من بدؤوا بحرق مقر الأمن . وهذا الكلام لاينفي مشاركة بعض الشباب من تطاوين في عمليات النهب والسرقة. في ما عدا ذلك فقد كانت مسيرات شباب الكامور في مدينة تطاوين في غاية السلمية وقد رافقتهم أثناء تسلم الجنازة وساروا بها في بعض أنهج مدينة تطاوين ثم في اتجاه المقبرة بالبئر الأحمر.ولم ألاحظ حالة واحدة من الفوضى والتخريب. بل إن بعض الشباب كان يحرس مقرات الأمن بعد أن غادرها أصحابها وتركوها للنهب. وحصل ذلك في مركز سيدي مصباح الذي أصر الشباب على البقاء فيه حتى تسليمه إلى الأمن وقد اتصلوا بالجيش أيضا وكنت شاهدا على ذلك . كما تمت ملاحقة بعض أحداث السن وهم بصدد سرقة بعض الممتلكات البسيطة – أحذية - من مقر الأمن الذي تم حرقه سابقا وتم إرجاع المسروق ونهر الشباب. لقد قام الشباب بالاتصال برجال الأمن بتطاوين ودعوهم الى الالتحاق بمقراتهم وحماية المدينة من الفوضى وكنت شاهدا على ذلك أيضا. ولم يمض سوى يوم واحد حتى عادت الأمور كما كانت عليه قبل الحدث.
ومما وقفت عليه بنفسي أثناء عودتي إلى بيتي في ساعة متأخرة من الليل تم إيقافي في نقطة تفتيش في «كرشاو» حيث هرع الشباب نحوي بالهراوات وكانوا قد سدوا منافذ الطريق إلا أن أحدهم تعرف علي وأفسح لي الطريق فسألته: ما شأنكم؟ قالوا نحن نحرس مدينتنا بتنسيق مع الجيش مخافة انتشار السلاح وتحسبا لاستغلال فلول الإرهاب لغياب الأمن نتيجة الأحداث الجارية.
والمطلوب اليوم هو العودة إلى الطاولة لاستكمال مشوار المفاوضات للوصول إلى تفاهمات تنتهي بفك الاعتصام وقفل هذه الجولة من الاحتجاجات ويبقى حق التظاهر والتدافع السلمي مكفولا بالدستور وممكنا كلما دعت الحاجة إلى ذلك مع حرص الجميع على مراعاة إمكانيات الدولة في الاستجابة للمطالب الملحة والحرص على زيادة الانتاج لا تعطيله لأن أثر ذلك سيعود بالخيبة على الجميع. وقد لمست في شباب الكامور استعدادا لذلك . حفظ الله تونس من كل سوء وجنبها الفوضى والاحتراب.



الشروق

شارك الموضوع إذا أعجبك :