close
أنور الجمعاوي – عن الفعل الاحتجاجي في تطاوين

أنور الجمعاوي – عن الفعل الاحتجاجي في تطاوين

أنور الجمعاوي – عن الفعل الاحتجاجي في تطاوين


مرابطون_أنور الجمعاوي
شهدت محافظة تطاوين، في الجنوب التونسي (600 كلم من العاصمة) حراكا احتجاجيا مطلبيّا، استمرّ أسابيع، وعبّر  فيه الأهالي عن ضيقهم بحالة التهميش التي تعاني منها الجهة على امتداد عقود من قيام دولة الاستقلال. فعلى الرغم من أنّ المحافظة المذكورة تحتوي على ثروات طبيعية مهمّة) نفط، غاز، جبس، ملح…)، فإنّها مازالت تحتلّ أسفل الترتيب في سلّم التنمية، وتبلغ نسبة العاطلين من السكان الناشطين فيها حوالي 33%، ويضطر أغلب أبنائها  إلى الهجرة إلى خارج البلاد أو إلى النزوح نحو المدن الكبرى (صفاقس، سوسة، تونس…) بحثا عن موطن شغل يقتاتون منه، ويُعيلون به أسرهم. وتكمن المفارقة في أنّ الشركات الأجنبية والوطنية المستثمرة في المدينة لا تجلب حاجياتها الاستهلاكية من المحافظة، ولا تساهم إلاّ بالنزر القليل في مشاريع التنمية الجهوية، وأغلب العاملين فيها ينحدرون من خارج المدينة. كما أنّ مقرّاتها الإدارية المركزية موجودة في العاصمة، وهو ما يجعل استفادة تطاوين من العائدات الضريبية لأنشطة تلك الشركات محدودة. 
يضاف إلى ذلك أنّ المحافظة تعاني من نقصٍ حادّ في المرافق الصحيّة والكادر الطبّي، وهو ما أدّى إلى وفاة نساء حوامل عند الولادة، وإلى هلاك مواطنين مصابين بأمراضٍ مزمنةٍ بسبب قلّة التجهيزات وغياب الكادر الطبّي المختصّ. كما تفتقر المدينة إلى فضاءات ترفيهية، ثقافية جاذبة للشباب. وقد أدّت حالة التهميش تلك إلى صحوةٍ احتجاجية عارمة، عمّت المدينة، ولفتت انتباه الرأي العامّ وأصحاب القرار إلى فداحة الوضع المعيشي بتلك المنطقة. ويمكن من منظورٍ أنتروبولوجي الوقوف عند ثلاثة مظاهر دالّة، واكبت الحراك الاحتجاجي في المدينة، أوّلها، مضمون المطالب التي رفعها المحتجّون، وثانيها، السمات المميّزة للسلوك الاحتجاجي المواطني، وثالثها، كيفيّة تعاطي الحكومة التونسيّة مع الحراك الاحتجاجي. 
ففي المستوى المطلبي، دعا المحتجّون الأطراف القيادية المسؤولة في الدولة إلى رصد 20% من العائدات النفطية التي تنتجها المحافظة لدعم صندوق التنمية الجهوية فيها، وإلى توظيف فردٍ من كلّ عائلة في إحدى الشركات النفطية المستثمرة في المنطقة، ونقل مقرّاتها المركزيّة إلى

المدينة. كما طالبوا بمنح الشركات المحلّية الأولوية في طلبات العروض، ونادوا بفتح مطار “رمادة” العسكري للرحلات المدنية. وعلى الرغم من غلبة الطابع الجهوي/ المناطقي على تلك المطالب، فإنّها تبقى مشروعة، ومندرجةً في سياق الحقّ في التشغيل، والتنمية الشاملة، والتوزيع العادل للثروة، وهي معبّرة عن إحساس الأهالي بالضّيم والإقصاء، وعن سأمهم من السياسات التنموية التقليدية الجائرة التي كرّست تهميش المناطق الطرفية والجهات الداخلية لصالح المدن المركزيّة في الساحل والشمال. والواقع أنّ مشروعية تلك المطالب وصدقيّتها ساهمت في تأييد مكوّنات المجتمع المدني (جمعيات، أحزاب، نقابات…) للمحتجّين، وأدّت إلى تعاطف المراقبين في الداخل والخارج معهم. 
وزادت من نُبل تلك المطالب طبيعة السلوك الاحتجاجي الذي انتهجه المواطنون في التعبير عن رفضهم سياسات الدولة، وتوقهم إلى غد أفضل، فقد راوحوا بين الاعتصام والإضراب والتظاهر في غير عنف، ومن دون إلحاق ضرر بالممتلكات العامّة والخاصّة، ورفضوا الانخراط تحت يافطة أيّ طرفٍ حزبيٍّ أو نقابي. بل شكّلوا من داخلهم تنسيقيةً شبابيةً، تولّت تنظيم الحراك الاحتجاجي وتنويع أشكاله، والتواصل مع وسائل الإعلام ومع الفاعلين في المجتمع المدني وأصحاب القرار. ودلّ قيام الفعل الاحتجاجي/ المطلبي على السلمية، والاستقلالية، والتنظّم المدني الذاتي على تشكّل وعي احتجاجي/ مواطني/ حضاري، استثمر مناخ الحرّية الذي أفرزته الثورة، ليشتبك أفقيّا مع أجهزة الدولة، ويدفعها إلى مراجعة منوالها التنموي، ومنهجها البيروقراطي الكلاسيكي في التعامل مع محافظة تطاوين خاصّة، ومناطق الظلّ عامّة. 
والملاحظ أنّ حكومة الوحدة الوطنية لم تتّجه وجهة التصعيد تجاه الاحتجاجات الشعبيّة الحاصلة في المنطقة. بل انتهجت نهجا تفهّميا في التعاطي مع مطالب المحتجّين، وانفتحت عليهم ومدّت يد الحوار إليهم. وفي هذا السياق، خاض وزير التشغيل والتكوين المهني، عماد الحمّامي،

مفاوضات مطوّلة مع المحتجّين بغاية حلحلة الأزمة. كما قاد رئيس الحكومة يوسف الشاهد وفدا وزاريّا قَصَد تطاوين، وحاور ممثّلي المحتجّين مباشرةً على نحو أخبر بحالة من التواصل الأفقي/ التفاعلي بين الحاكم والمحكوم، وهو أمرٌ أتاحته الديمقراطية التونسية الوليدة، ولا نشهده في الدول الشمولية التي كثيرا ما تمنع التظاهر، أو تواجه جحافل المحتجّين بوابلٍ من الرّصاص والقنابل المُسيلة للدموع. 
وعلى الرغم من أهمّية حزمة القرارات التي أعلنها يوسف الشاهد لفائدة المحافظة ((64  قرارا)، فإنّ الحاجة أكيدةٌ إلى تفعيل مشروع “التمييز الإيجابي” للجهات الطرفيّة الذي نصّ عليه الدستور، وتحويل الوعود منجزات، واتّخاذ تدابير إجرائية استعجالية لإنقاذ تطاوين وغيرها من المناطق الداخليّة من براثن الفقر، والتهميش، والبطالة، حتّى يستعيد المواطن في تلك الربوع ثقته في الدولة، وينعم بالعيش في ظلّ نظام جمهوري/ ديمقراطي، يضمن له الحقّ في الرّفاه والحياة الكريمة، كما يكفُل له الحقّ في التعبير والاحتجاج.

شارك الموضوع إذا أعجبك :